عبس وتولى .. من واقع معاصر
بسم الله الرحمن الرحيم
عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَن جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى . كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ .
آيات جميلة نقرؤها ونستمع إليها كما نستمع كل يوم إلى نظيراتها من آيات القرآن الكريم ، سواء عن طريق الإذاعة والقنوات الفضائية أو عن طريق السور المسجلة صوتياً على الكمبيوتر أو أجهزة المحمول ، ولا شك في أن الاستماع إليها فضيلة كبيرة ، ولكن هل سألنا أنفسنا ماذا تعني هذه الآيات؟
هل سألنا أنفسنا إذا كنا قد تعرضنا لموقف يذكرنا بهذه الآيات؟
نفرح كثيراً إذا رأينا طفلاً في السابعة من عمره وهو يحفظ ويردد آيات القرآن العظيم .. ولكن هل نفرح لأنفسنا ككبار بالغين إذا استمعنا وحفظنا ورددنا هذه الآيات دون فهمها أو معرفة مغزاها أو المطلوب منها؟ .. إذا كنا نحفظ أو نردد فقط ، فإن الكمبيوتر الذي نستمع عن طريقه إلى هذه الآيات يحفظ ويردد أيضاً بدون فهم ، إذاً ما الفرق بيننا وبين الآلة الصمـــاء ؟؟!!!ـ
لماذا اخترت هذه الآيات المكتوبة في بداية المقال بالذات؟ بالتأكيد لأن وراءها معنى كبيراً ، بالفعل نحن نتعرض لها كل يوم ، ونبدأ بسبب نزول هذه الآيات حتى نعرف ما الذي يدعوني إلى طرح هذه النقطة الأخلاقية العظمى التي حض عليها القرآن وتليت علينا منذ 1430 عاماً بدون أن نعيها
كان الرسول عليه الصلاة والسلام في مجلس مع صحابته ، وكان هناك رجل فقير أعمى يدعى ابن أم مكتوم ، وكان لدى هذا الرجل استفسارٌ عن معلومة دينية قد تفيده وتفيد المجتمع ، فلما دخل الأعمى على الرسول صلى الله عليه وسلم وسط اجتماعه ، أحس الرسول بضيق وتركه أي عبس وتولى ، عبس وجهه وتولى عن صاحب المصلحة ، فعاتبه الله على صفحات القرآن قائلاً له : أليس من الممكن أن يكون قد طلبك في موضوع يخص حياة أو موت؟ أليس من المحتمل أن يكون ما يطلبك بشأنه فيه منفعة وهداية للناس ؟ وقد كان بالفعل... ويذكره بأن طبيعة الإنسان جريه وراء من مصلحته أو فائدته عنده ، حتى وإن كانت هذه الفائدة أن يهديه إلى الحق ، فقد كان الرسول يشغل نفسه بمن استغنى عن الحق ليصده على الضلال ويصر ويجاهد في سبيل ذلك مع أنه ما عليه هدايته لأن الله يهدي من يشاء !! ومن طبيعة الإنسان أن يهمل من هو طالب حاجة منه ، حتى وإن جاء يسعى إلى الحق خاشياً ربه.. ونأتي إلى الآية الأخيرة والحاسمة في هذا الموضوع كله....
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ
تذكرة لمن ؟ عظة لمن ؟ للناس جميعاً.. نعم !!! وهو موقف نتعرض له يومياً..
هاتف من شخص غير مرغوب فيه .. اضغط كانسل.. لا ترد.. أنا مش ناقص وجع دماغ ، وممكن شتيمة على الماشي لطالب هذا الرقم الغير مرغوب فيه
اترك صاحب هذا الرقم يرن براحته ، وإذا رد أحد : لا واللـه الشخص الذي طلبته غير موجود ، أو غير متاح حالياً نرجو الاتصال في وقت لاحق أو عدم الاتصال أفضل
أتذكر أغنية للأطفال اسمها "بابا تليفون" حينما يرن الهاتف ويرد الطفل : بابا تليفون، فيقول الأب: أنا مو هون (يعني أنا لست هنا) فيقول الطفل للمتصل ببراءة : بابا بيقولك هو مو هون وتتحدث باقي الأغنية عن لماذا تكذب لمجرد رفضك الرد على من يتصل بك يا بابا ، ألست أنت الذي علمتني أن الكذب حرام وأن الله لا يحب الكاذب؟
ألسنا أمة محمد التي وضع الله فيها الخير إلى يوم القيامة؟ ألسنا الذين أمرنا بقضاء حوائج الناس؟ ألا نعلم أن المختصين بقضاء حوائج الناس هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة؟
ونسأل أنفسنا سؤالين، أولاً أليس من نتجاهل رد طلبه بالفعل في حاجة إلينا حتى لو كان شخصاً غير مرغوب فيه أو مكروهاً ، وربما بعد ذلك يستغل هذه "الطيبة" في رد سيادتنا على هاتفه فيتصل في أمور حمقاء؟
تعرضت لهذا الموقف أكثر من مرة من ناس كانوا في أمس الحاجة ، ولكن ما أتذكره الآن هو عندما كنت في المستشفى حين استلمت نوبة الطوارئ من زميلي الواقف خارج الغرفة ، وأول ما دخلت الغرفة وجدت أحد الأدوار يتصل بشكل جنوني ، رفعت سماعة الهاتف ، لأفاجأ أن الممرضة كانت تتصل من ساعتين لأن هيموجلوبين المريضة وصل إلى 4 وفي حالة خطيرة ، يا سبحان الله هل بالفعل الرد على الهاتف قد ينقذ حياة الناس؟ بالفعل تمكنا من نقل كيسين من الدم لها ووصل بعدها إلى 7 والحمد لله أننا تمكنا من إنقاذها بعد أن كانت على شفا حفرة من الموت.. افترضوا أن هاتف الإسعاف الخاص بالمدينة التي تسكنون فيها لا يرد، افترضوا أن هاتف أحد المصالح الضرورية لا يرد والناس في أمس الحاجة إليه.. هل تتوقف حياة الناس؟ إنها الأخلاق التي حث الله عليها ، والأقرب إلى الذوق وحسن التعامل ونشر الخير.
السؤال الثاني: أليس من الممكن أن نشعر بالندم تجاه من نتجاهله؟ ألا نشعر بأحاسيسه المحبطة وهو في حاجة إلينا ؟ ألم نتعرض قبل ذلك لمواقف احتجنا فيها إلى الناس ولم يردوا على هواتفنا؟ كيف كان إحساسنا في كل مرة؟ أليس من الأخلاق أن نعامل الناس بما نحب أن نعامل به؟؟ صحيح هناك من يقول أن هناك اتصالات للمعاكسات واتصالات من أشخاص يسبون واتصالات من أشخاص يضيعون الوقت أو يدعون إلى معصية.. وأنه لا داعي للرد على هؤلاء ، في هذه الحالة أقول لهم معكم حق لأن المنفعة في عدم الرد أكثر منها في حالة الرد ، لأنكم تتجنبون ضياع الوقت أو الدخول في معصية ، وكذلك أنتم تحاولون أن تؤدبوا هذا الشخص الذي يتصل ليسبكم أو يضيع وقتكم، وفي حالة المعاكسة يمكنكم أن تتصلوا بالشرطة ، وليس عليكم شيء بعد ذلك ، ليس عليكم هداية الناس...
المطلوب لا أن نكون دعاة ، المطلوب هو أن نصلح من أنفسنا ، أن نفهم الآيات التي تتلى علينا ، إنه شيء مخز عندما نجد مسلماً بالغاً يقرأ سورة مثل على سبيل المثال سورة الفلق وهي سورة قصيرة بسيطة بطريقة خاطئة ولا يفهم معنى كلمة غاسق إذا وقب أو النفاثات في العقد ، يجب أن نعيد بناء أنفسنا مرة أخرى في فهمنا لأمور الدين والدنيا
نعود إلى سورة عبس والتي نحفظها منذ الصغر ولا نعلم إن كنا نفهمها أم نرددها كجهاز الكمبيوتر والذي حجته أن لا عقل له ، فماذا فعلنا بعقولنا وإيماننا ؟ وهذا هو الفرق بين المتدبر والمتكبر ... ما هي حجتنا ؟ لا بد أن نكون واحداً من اثنين لا ثالث لهما ، مصلحين أو مفسدين ، وكل منهما له مصيره الذي تختتم به السورة وأختتم به المقال..
بسم الله الرحمن الرحيم
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ . ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ . وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ . تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ . أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ .